بسم الله الرحمن الرحيم
أشرقت تباشير فجر هذا اليوم فرحة جذلى وهي تحمل تاجًا مرصعًا بالجواهر والدرر، يممت به فوق أشعتها الذهبية حتى وضعته على رأس ذلك الشاب.. ثم ودعت مغادرة المكان على عجل والصوت مسموع وهذا قليل في حقه!
من هو يا ترى هذا الشاب الذي تحمل له القلوب كل تلك المحبة؟ ويتزين له القمر في ليلة مظلمة! وينفرد بوضع التاج على رأسه! وهل في هذا الزمن من يستحق ذلك...
خصوصًا إذا كان شابًا لم يتجاوز الأربعين من عمره... بل وما هو جهاده وبلاؤه؟ وأين سيرته ودقائق حياته؟!
مع غروب شمس هذه الأيام يكون هذا الشاب نضر الله وجهه، قد أتم خمسة عشر عامًا بجوار والده في غرفة صغيرة بإحدى المستشفيات لا يخرج منها إلا لحاجة ضرورية.. دقائق معدودة ثم يعود سريعًا وغالبًا ما تكون بعد عصر يوم الخميس في حضور أحد الأقارب!
والسؤال يطرح نفسه بحثًا عن الإجابة الوافية بعد هذه المعلومات السريعة الموجزة !!
أين يعمل إذا؟! وكيف يعيش؟! وماذا عن وضعه الاجتماعي؟! وكيف طوع الصبر في يده طوال هذه المدة الطويلة؟! وبماذا قاد نفسه وكيف وطنها في طريق عجز الآخرون عن السير فيه خطوات فحسب؟!
أسئلة طويلة تحتاج إلى نبع من الأجوبة يروى ظمأ القارئ؛ ويطفئ لهيب أفئدة أصابتها سهام العقوق!
وجواب هذه الأسئلة مدعاة إلى أن تتضح صورة الوفاء وأداء الحقوق بشكل أنصح وأجمل! وإن شئت فاحمل بيدك مع نهاية هذه السطور تاجًا آخر على رأس ذلك الشاب.. ثم أتبعه ما شئت من الدعاء له!!
فمنذ أن أصيب والده بجلطة دماغية أدت إلى ملازمته للسرير، تفرغ هذا الشاب من كل أشغال الدنيا، وترك العمل، وهجر الأصحاب، وأعرض عن النزهات والرحلات!
بل كان العمل والأصحاب والتنزه والحياة كلها هنا في هذه الغرفة الصغيرة بين جدرانها الأربعة بجوار والده برًا وإحسانًا، ويزداد العجب إذا علمنا أن والده حتى الآن وطوال هذه السنوات الخمس عشرة في غيبوبة دائمة لا يعرف من يأتيه ولا من يذهب عنه!
وإن رابك العجب من فعل هذا الشاب وحسن صنيعه، وأردت أن تعرف أن لهذا الشاب قصب السبق، والقدح المعلى في البر والإحسان فاذهب إلى دور النقاهة لترى وتسمع كيف هجر الآباء ونسيت الأمهات! أو ألق نظرة عجلى داخل البيوت؛ لترى صورًا مفجعة من أنواع العقوق، والهجر والحرمان!
ألم تسمع أحدهم يعاتب والدته حتى انعقد لسانها، وانهمرت دموعها؟ أو لم تسمع أحدهم يزور الأحباب والأصحاب كل يوم أو يومين في سهرة طويلة وابتسامة عريضة ويهجر أباه وأمه أيامًا وشهورًا وإن مر عليهما لحظات فهو مرور عابس كئيب شره أكثر من خيره، وضرره أوضح من نفعه!؟
والكثير من الشباب يسير في خدمة أصحابه ورفقائه ويستقل أمرًا بسيطًا من والديه! بل –والفاجعة في أكثر البيوت- نرى من يقدم الذهاب إلى المحاضرة أو قراءة كتاب أو مشاهدة شاشة على سماع حديث أبويه والجلوس معهما! ومن ساءت به الحال اتخذ من الباب الخلفي طريقًا لدخوله وخروجه فربما أمرته والدته، أو سأله والده دواءً!
وآخرون ممن اختلت عندهم الموازين ونقصت لديهم العقول يقدمون الزوجة على بر الوالدين، ربما كان رضاها في هجر الوالدين، وعدم زيارتهما، والصدود عنهما... وبئست الزوجة وبئس الزوج. وساءت الدركات فهي ظلمات بعضها فوق بعض!
إن المتأمل في مجتمع الشباب اليوم بصفة عامة –مع الأسف- يلاحظ انتشار ظاهرة عقوق الوالدين تطل بعنقها البغيض بين حين وآخر.. ومع ارتفاع مستوى التعليم لدى الكثير الذي يتبعه عادة نمو مستوى التفكير والذوق، والحرص على التلطف والمجاملة، وقبل ذلك معرفة الأحكام الشرعية، إلا أننا نلاحظ بنظرة سريعة أن منزلة الصديق،بل وعامة الناس-عند البعض- تأتي في المقدمة قبل الوالدين والإخوة، ويلحقهم الأقارب، فلا نرى لأصحاب الحقوق حقوقهم، ولا لأهل الوصل حبالهم!
فحسن الخلق والبشاشة واللطف، بل حتى الزيارة والمحادثة والمهاتفة سائرة نحو الصديق والرفيق، ويحرم منه من قال الله –عز وجل- عنهم: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرً} [الإسراء: 24] بل وأمر بصحبتهما بالمعروف وهما على الكفر: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً} [لقمان: 15]، فما بالك بأبوين مسلمين عابدين صالحين؟! يلهجان لك بالدعاء صباح مساء!
أصغ بسمعك إلى أحد الشباب وهو يتحدث عن فلان من العامة، قد أقام الدهر اعترافًا بجميله لأنه أكرمه يومًا أو يومين.. فأسمع الناس ثناء على كرمه وحسن ضيافته، وجميل صنعه! أما من أكرمه وأحسن وفادته عقودًا من الزمن فقد طواه النسيان، وتفرقت به الأيام وليت الأمر كذلك بل استنزل دموعهما وترك أنة... حرى تختلج بين ضلوعهما! ولسان حال الأبوين يقول له:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا --- حياتك لانفع وموتك فاجع
أيها الشاب: أطلق بصرك لترى ابتسامة والديك فإنها من أسعد لحظات الدنيا، واسجد في هجعة الليل المظلم، وارو الأرض من دموع الندم والتقصير عائدًا مستغفرًا مرددًا: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرً} وإن لم يكن لكم خمسة عشر عامًا في ملازمتهما فلا تحرمهما أقل من ذلك بكثير وكثير..وعندما ينبلج الصبح تكون أبًا شيخًا وتأخذ الأيام دورتها!
وقبل أن تجوز الصراط ستسأل عن برهما؟
وقد تحرم في هذهالدنيا دعوة منهما لا تشقى بعدها أبدًا.
ثلاث سنابل:
* جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، فقال: «أرجع فاضحكهما كما أبكيتهما»، وفي لفظ آخر: «لا أبايعك حتى ترجع إليهما فتضحكهما كما أبكيتهما» [رواه أبو داود].
* قال بشر بن الحارث: الولد بالقرب من أمه، حيث تسمع نفسه أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله –عز وجل- والنظر إليهما أفضل من كل شيء.
* قال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعش العشاء مع أمك تقر بها عينك أحب إلي من حجة تحجها تطوعًا!.
فيا من متعك الله بحياة والديك؛ سابق وأسرع في برهما قبل أن تطوى صحائفهما وتغرب شمسها؛ ولا ينفع بكاء على القبر ولا أنة بعد الفراق! إلا توبة صادقة وعودة تائبة! ومن لك بالقبول –رحمك الله-؟
***
خمسة عشر عاما