كانت المرحومة أمى، كلما تابعت ردّ فعل غاضباً، على فعل لا يتناسب مع حجم الغضب، مصمصت بشفتيها، واستشهدت بالمثل الشعبى الذى يقول: «دى مش دبانة.. دى قلوب مليانة».
ومعنى الكلام أن تصاعد موجة الغضب المصرى، خلال الأسبوعين الأخيرين، كأحد تداعيات ما جرى فى «أم درمان» لم يكن بسبب «الذبابة» التى هى هجوم عدد كبير من المشجعين الجزائريين، على بعض الحافلات المصرية، التى كانت تقل مشجعى الفريق المصرى لكرة القدم، وهم فى طريقهم إلى المطار بعد انتهاء مباراة التأهيل لكأس العالم بين الفريقين، بل تولد لأن قلوب المصريين ملآنة بغضب تراكم على امتداد سنوات وعقود، لم تكف خلالها مليارات المليارات من الذباب عن الطنين، وهم يعتصمون بالصبر، ويكظمون الغيظ، حتى جاءت القشّة التى قصمت ظهر البعير، وذبابة أم درمان التى فتحت محبس البخار، فاندفع شلال الغضب بلا ضابط.. ولا رابط.
ويخطئ كل من يظن أن الغضب المصرى، كان منظماً من أى جهة، إذ لو كان كذلك، لأمكن ـ على الأقل ـ تنظيمه، لكى يكون ردّ الفعل متناسباً مع الفعل، وعلى العكس من ذلك، فقد وجد الجميع أنفسهم تحت ضغوط شعبية جارفة، لا يستطيعون تجاهلها، تستصرخهم، فى غضب أن يفعلوا شيئاً ففشلت كل محاولة لإقناع هؤلاء، بأن ما حدث هو مجرد أمر «تافه» وعلى الأكثر «عادى»، وأنها مجرد ذبابة لا أكثر ولا أقل، وسواء كانت الحافلات التى تعرضت للعدوان ثلاثاً، أو كانت ـ وهو الأرجح ـ سبعاً، أو كان الذين أصيبوا مائة وعشرين، أو كانوا أكثر من ذلك، وسواء كان الأمر اقتصر على تحطيم الجزائريين صالة المغادرة فى مطار القاهرة، وعلى نهب مقر شركة مصر للطيران بالجزائر، وتدمير فروع لشركات مصرية هناك، أو اقتصر على شىء من ذلك، فقد فهم عموم المصريين ما جرى، بفطرتهم، وخبرتهم، واعتبروه محاولة مقصودة ومخططاً لها، تحت رعاية رسمية جزائرية، لإذلالهم، والاستهانة بهم والمساس بكرامتهم.. وقد كانت كذلك بالفعل!
لم تكن مجرد دبّانة، بل قلوب ملآنة بذكريات سود، دفعتنى فى منتصف السبعينيات لأن أكتب مقالاً بعنوان «عروبة مصر على شفا جرف من نار» فى أعقاب دبانة من النوع نفسه، أثيرت حين عرض فيلم «المذنبون» ـ وهو مأخوذ عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ، وقام ببطولته «عماد حمدى» و«سهير رمزى» ـ فى بعض دول الخليج، لتتتالى استغاثات المصريين العاملين فى هذه الدول، تطالب بوقف عرض الفيلم، لأن الذين شاهدوه فى الخليج، عمموا وقائعه، التى تضم نماذج من النساء المنحرفات، على كل النساء المصريات، وبدأوا يتعاملون مع المقيمات منهن على هذا الأساس، وامتلأت الصحف العربية، آنذاك، وبعد ذاك، وإلى الآن، بالحديث عن ملاهى شارع الهرم، والمصريين الذين يقيمون فى المقابر، وبـ«القاهرة» التى سماها المشجعون الجزائريون المحترمون فى لافتة رفعوها فى استاد «أم درمان» «العاهرة».
مشكلتنا نحن العرب المصريين مع أشقائنا العرب غير المصريين، هى ـ كما ألمحت فى الأسبوع الماضى ـ مشكلة «فجوة حضارية» ربما لا يكون لنا، أو لهم ذنب فيها، فقد كنا طليعة أمتنا فى التقدم والحداثة، فعرفنا أول برلمان، وأول دستور، وأول دعوة لتحرير ـ وتعليم ـ المرأة، وأول صحيفة وأول فرقة مسرحية، وأول فيلم سينمائى وأول إذاعة وأول حزب سياسى وأول مظاهرة عامة، بينما كانت أقسام واسعة من الأمة تعيش على البداوة، فعلنا ذلك بأذرعتنا، وبعرق جباهنا، وعشقنا للعمل، وإتقاننا له، فى بيئة شحيحة الموارد، ليس فى أرضها نفط، ولا تمطر السماء فيها ذهباً ولا فضة، وكما كانت الأقسام المتخلفة والزراعية فى وطننا نفسه.. تسىء فهم ذلك، فقد أساء بعض العرب ـ بسبب الفجوة الحضارية التى تفصلنا عنهم ـ فهمه!
وهكذا ظن البعض منهم أن صبرنا على المكاره، هو ضعف، وأن قولنا: «القبيح يشتم الباشا» هو قبول للإهانة، وأن دعوتنا للتطنيش وتكبير الجمجمة هى استكانة وليست تعالياً عن الصغائر، وأن تواضعنا ضعة، وليس بعض مكارم الأخلاق، وتوهموا أن سعينا لكى نعمل هو شحاذة، وليس إيماناً بأن «الإيد البطالة نجسة» حتى لو كانت تملك كل أموال قارون، وأن الشحاذين الحقيقيين هم الذين يعيشون على غير عرق جبينهم.
ولم يدرك هؤلاء أن المصرى العادى، الذى يبدو ـ فى الظاهر ـ رجلاً هليهلياً متسامحاً، يؤثر السلامة، قد تعلم من خبرته التاريخية والحضارية أن يكظم غيظه، وأن يمد فى حبال الصبر، لعل الذى يتطاول عليه أو يسىء إليه يعود إلى رشده، إلى أن يمتلئ القلب حتى الحافة، فإذا كل ما فوق التراب.. تراب.
وذلك ما كان.. جاءت الدبانة الجزائرية فى أم درمان، لتكشف عن أن القلوب ملآنة، بما يجاوز حجم ما حدث، وما يجاوز حتى الأخطاء التى وقع فيها الجزائريون من قبل، وغضب المصريون، الذين وصفهم شيخنا المؤرخ «عبدالرحمن الجبرتى» بأنهم «لا يطاقون من ألسنتهم إذا أطلقوها فى حق الناس»!
منقول